أعلان الهيدر

Header ADS

أوال الكلمة

الأربعاء، 20 أغسطس 2025

الرئيسية ازمة الهوية نتاج الانهيارات

ازمة الهوية نتاج الانهيارات

أزمة الهوية: حلقة مفرغة بين العقل والواقع

تُعدّ أزمة الهوية من أخطر التحديات التي تواجه الشعوب في العصر الحديث، لا سيما تلك التي مرت بتجارب معقدة من الاستعمار، والتحديث المفاجئ، والتغيرات السريعة في القيم والهياكل الاجتماعية. ورغم أن التعبير عنها غالباً ما ينبع من الفرد ("لا أشعر بأنني أنتمي"، "لا أعرف من أنا")، فإن الحقيقة العميقة تكمن في أن أزمة الهوية لا تبدأ في العقل، بل تُولد من واقع اجتماعي وسياسي وثقافي مأزوم، ثم تعود إلى هذا الواقع لتُعيد تشكيله، مولدةً حلقة مفرغة من التصعيد والتراكم، كمياً وكيفياً.

1. الولادة: أزمة الهوية تُولد من الواقع، لا من الفراغ الذهني
 قد يبدو أن أزمة الهوية تبدأ بـ"تأزّم نفسي" أو "حيرة فكرية"، لكنها في جوهرها نتاج لانهيار أو اضطراب في البُنى الأساسية للمجتمع:
سياسياً: غياب دولة وطنية جامعة، هيمنة أنظمة استبدادية تُفرّق لتحكم، أو دولة ضعيفة لا تمثل شعبها.
اجتماعياً: تصدّع الأسرة، تراجع الروابط المجتمعية، تهميش الطبقات الشعبية، وانهيار النموذج التربوي.
ثقافياً: هيمنة ثقافة أجنبية، تهميش اللغة الوطنية، زرع قيم التبعية، وتقزيم الإنجازات الحضارية المحلية.

في هذا السياق، لا يمكن للفكر أن ينمو في بيئة سليمة، فيُولد العقل مُقسّماً: يُفكر بلغة أجنبية، لكنه يُصلي بلغة قديمة؛ يُحبّ بلاده، لكنه يُحرج من لهجته؛ يُدرّس التاريخ، لكنه لا يُؤمن به.

هكذا، تُولد أزمة الهوية من تناقض مادي بين المرجعيات، لا من خلل نفسي فردي.

2. العودة: الهوية المأزومة تُعيد تشكيل الواقع
 بعد أن تُولد أزمة الهوية من الواقع، لا تبقى حبيسة العقل، بل تُعاد إنتاجها في السلوك، والمؤسسات، والخطاب العام:
على المستوى الفردي:
يُصبح الفرد مُنفصماً: يُقدّر التراث شفوياً، لكنه يُربّي أبناءه على الثقافة الأجنبية.
يُهاجر روحياً قبل أن يهاجر جسدياً: يُحبّ الغرب قبل أن يزوره.
 على المستوى الاجتماعي:
تُضعف الروابط الوطنية، ويُستعاض عنها بانتماءات ضيقة (طائفية، قبلية، إثنية).
تُصبح الهوية مادة للتمييز: "أنت ليس عربياً حقاً"، "أنت غربي الميول"، "أنت لا تحترم التقاليد".
على المستوى الثقافي:
يُنتج مجتمع ثقافة استهلاكية، لا ثقافة إبداعية.
يُهيمن الإعلام الدخيل، وتُهمش الفنون الأصيلة.
على المستوى السياسي:
يُصبح المواطن غريباً في وطنه، فيرفض المشاركة، أو يُصبح أداة في يد قوى تعبّر عن جزء من هويته (الدين، القبيلة، الطائفة).

هكذا، تُعيد أزمة الهوية صياغة الواقع الذي أنتجها، لكن بنسق أكثر تشوهاً.

3. الحلقة المفرغة: تراكم كمّي ونوعي للأزمة
 ما يجعل أزمة الهوية خطيرة ليس مجرد وجودها، بل طبيعتها الدائرية والمتراكمة:
تراكم كمّي: كل جيل يُورّث الأزمة للجيل التالي، مع تفاقمها.

مثال: جيل تعلّم بلغة أجنبية في المدرسة  جيل يُربّي أبناءه بلغة أجنبية في البيت  جيل ثالث لا يفهم لغة أجداده.

تراكم كيفي: تتطور الأزمة من "حيرة" إلى "رفض"، ثم إلى "عداء تجاه الذات"، وصولاً إلى "الانتحار الحضاري" (تقليد أعمى، تدمير التراث، هجرة جماعية للعقول).

وهكذا، تصبح الأزمة أعمق، أكثر تعقيداً، وأصعب علاجاً.

4. كيف تنكسر هذه الحلقة؟
 لكي تنكسر هذه الدائرة المفرغة، لا يكفي الحديث عن "العودة إلى الجذور" أو "التنمية الروحية". بل يتطلب الأمر تدخلات مادية ورمزية متزامنة:
إصلاح التعليم: ليس فقط تغيير المناهج، بل إعادة بناء علاقة التلميذ بتاريخه ولغته وحضارته.
إحياء اللغة: جعل اللغة الوطنية لغة تفكير، وتعليم، وإبداع، لا مجرد رمز شكلي.
بناء دولة وطنية جامعة: تُحقق العدالة، وتُعطي كل مواطن شعوراً بالانتماء المتساوي.
دعم الإنتاج الثقافي المحلي: الفن، السينما، الأدب، الموسيقى، كلها أدوات لاستعادة الهوية.
إعادة قراءة التاريخ بوعي نقدي: ليس تقديساً، ولا تجريحاً، بل فهماً ناضجاً للماضي، ليكون دليلاً للحاضر.
  
الهوية ليست مسألة شعور، بل مسألة وجود
 أزمة الهوية ليست "أزمة نفس"، بل أزمة وجود.
ليست مجرد "حيرة فكرية"، بل مأساة حضارية تُهدّد بقاء الشعوب ككيانات مستقلة.
وهي ليست خطراً مستقبلياً، بل واقعٌ معيّش، يُترجم في كل تفاصيل الحياة: كيف نُربّي، كيف نُعلّم، كيف نُنتخب، كيف نُحبّ، كيف نُدافع.
تبدأ في الواقع، تُولد في العقل، وتعود إلى الواقع لتُدمّره.هذه هي الحلقة المفرغة.

لكن في المقابل، إذا تمّ التدخل بوعي، وإرادة، واستراتيجية، يمكن تحويل هذه الحلقة إلى حلقة إيجابية:

 وعي بالهوية → إصلاح في التعليم → تقوية الثقافة → بناء دولة قوية → ترسيخ الانتماء → تجديد الهوية.

لأن الشعوب لا تنهار بالفقر وحده، بل تنهار عندما تنسى من تكون.
وإنقاذ الهوية، إذاً، ليس رفاهية فكرية، بل شرط بقاء.

إيغوصار 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

imp

يتم التشغيل بواسطة Blogger.