أعلان الهيدر

Header ADS

أوال الكلمة

الأحد، 24 أغسطس 2025

الرئيسية مدرسة ام مقصلة !

مدرسة ام مقصلة !

 "مقصلتي": صرخة هوية في وجه توحيد اللغة والانتماء

قبل المدرسة كنت أتحدث مثل أمي وجدي والقرية وعالمي... في المدرسة وجدت شيئًا لا أعرفه... أدركت فيما بعد أنه مقصلتي!

هذه الجملة البسيطة، القصيرة، تبدو كملاحظة عابرة من شخص عن طفولته. لكنها في حقيقتها، ليست مجرد ذكرى، بل تشخيص دقيق لجريمة ثقافية منظمة تُرتكب باسم "التعليم"، وتُبرر باسم "التحضر" و"الوحدة الوطنية". إنها صرخة تُعلن: لقد قَصَّونا، وسمّوها تعليمًا.

من أين تبدأ اللغة؟
تبدأ اللغة لا في الكتاب، بل في الحضن.
تبدأ في همسة الأم، في ضحكة الجدّ، في صوت الأمطار على سطح الدار، في نداءات الفلاحة، في حكايات المساء تحت شجرة الزيتون.
هنا، في هذا الفضاء الحميم، تُولد اللغة كـهوية حية، كـعالم كامل من المعاني، لا يُقاس بقواعد نحوية أو مفردات "فصحى"، بل بعمق العلاقة، بصدق الشعور، بحرارة الوجود.
لكن المدرسة، في كثير من أنظمتها، لا ترى في هذه اللغة سوى "لهجة"، بل غالبًا ما تصنفها كـخطأ لغوي، أو نمط تعبير بدائي.
تُطلب من الطفل أن يُخفي لهجته، أن يُقلّد نبرة المعلّم، أن ينطق الكلمات كما تُكتب في الكتاب — لا كما تُعيش في القلب. 
 
المدرسة: من فضاء التعلم إلى مصنع التوحيد
المدرسة، في مهامها النبيلة، يجب أن تكون فضاءً للاكتشاف، للإثراء، للانفتاح.
لكن في واقع كثيرون عاشوه، أصبحت مصنعًا لإنتاج الإنسان الموحّد:
موحّد اللسان، موحّد التفكير، موحّد الحلم.
في هذا المصنع، لا مكان للهوية المحلية.
القرية؟ "مكان التخلّف".
اللهجة؟ "لغة غير صحيحة".
الحكايات الشعبية؟ "خرافات".
الأمّ؟ "لا تعرف كيف تُعلّم ابنها الكلام الصحيح".

هنا، يبدأ التصدّع الداخلي:
الطفل يشعر أن عالمه الأول — عالم الأم والجذور — غير صالح، وأن عالم المدرسة — عالم اللغة الرسمية والقواعد — هو الوحيد "الصحيح".

ولكن ماذا يعني "الصحيح"؟
هل اللغة التي تُعبر عن القلب والجذور "خاطئة"؟
أم أن "الصواب" هو من يملك سلطة تحديد ما هو صحيح؟

"أدركت فيما بعد أنه مقصلتي!"
هنا تكمن لحظة الوعي الثورية.
ليس مجرد شكوى، بل استعادة للإدراك.
الكلمة "مقصلتي" ليست لهجة، بل جذري، هويتي، صوتي الإنساني.
والمدرسة لم تُعلّمني، بل قَصَّتني.

"مقصلتي" — تعبير شعبي يحمل دفئًا وجوديًا.
إنها ليست لهجة "مقطوعة"، بل أنا "مُقَصَّل"!
كأنهم أخذوا جزءًا من لساني، من ذاكرتي، من انتمائي، وسمّوه "تصحيحًا".

وهنا تظهر المفارقة:
التعليم، الذي يفترض أن يُوسّع الإنسان، يصبح أداة تقطيعه.
يُوسّع معرفته، لكنه يُضيّق هويته.
يُعلّمه لغة جديدة، لكنه يُفقده لغة الروح. 
 
لغة الهوية ليست عيبًا، بل ثراء
كل لهجة هي متحف صوتي يحمل:
تاريخ أرض،
معاناة جيل،
حكمة شعب،
شعرًا لم يُكتب،
فكاهة لا تُترجم،
حزنًا لا يُوصف.

ومن يتحدث بلهجته، لا يخطئ، بل يُعبّر.
ومن يفخر بلغته الأم، ليس "متخلفًا"، بل واعيًا بجذوره.

الإنسان لا يُقاس بقدرته على تقليد اللغة الرسمية، بل بقدرته على أن يكون صادقًا مع نفسه.

نحو تعليمٍ لا يقصّ، بل يُوسّع
الحل ليس في رفض التعليم أو اللغة الفصحى، بل في إعادة بناء العلاقة معهما.
التعليم الحقيقي يجب أن:
يُعلّم اللغة الرسمية كأداة اتصال واسع، لا كمقدّس.
يُحترم اللهجة كأصل ثقافي وحضاري.
يجعل الطفل يفخر بلغته الأم، ولا يخجل منها أمام المعلّم.
يُدرّس الأدب الشعبي، الحكايات، الأمثال، الأغاني، كجزء من المنهج.
يُقدّم القرية والريف كفضاء حضاري، لا مكان للنفي.
التعليم لا يجب أن يُوحّد، بل أن يُثرّي.
لا أن يُقصّ، بل أن يُوسّع.
 "مقصلتي" ليست عارًا، بل شهادة ولادة

من قال "مقصلتي"، قد يكون أكثر وعيًا بلغته من كل من تفوّه بالفصحى دون فهم.
لأنه لا يتحدث فقط عن لهجة، بل عن أصل، عن كرامة، عن هوية مُصادَرة.

وكل طفل يُجبر على نسيان صوت أمه ليُصبح "متعلّمًا"،
فهو لا يتعلّم، بل يُجرّد.

لذلك، على كل مدرسة، وكل منهج، وكل معلّم أن يسأل نفسه:
هل نُعلّم الأطفال ليكونوا أكثر تفتحًا؟
أم نُعلّمهم ليكرهوا أنفسهم؟

لأن الإنسان لا يُبنى بتقليع جذوره،
بل بإعطائه فرصة للنماء بصدق.

ومن يفخر بـ"مقصلته"،
قد يكون أول من يُعيد للغة روحها،
وللتعليم إنسانيته.

ومن قال: "أدركت أنه مقصلتي"،
فهو لم يُقصَّ تمامًا...
بل استعاد نفسه.

إيغوصار 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

imp

يتم التشغيل بواسطة Blogger.