أعلان الهيدر

Header ADS

أوال الكلمة

السبت، 23 أغسطس 2025

الرئيسية أشكالية الوعي في شمال افريقيا

أشكالية الوعي في شمال افريقيا

تخلف الوعي وتحويل الصراع السياسي إلى صراع هوياتي 

 
 لغم مزروع في طريق بناء الدولة والديمقراطية
في بلدان شمال إفريقيا، كما في غيرها من المجتمعات ما بعد الاستعمارية، تُطرح باستمرار مسألة الهوية: هل نحن عرب؟ أمازيغ؟ مسلمون؟ متوسطيون؟ إفريقيون؟ حديثون؟ تقليديون؟لكن السؤال الأعمق، والأكثر إلحاحًا، لا يتعلّق بالهوية بحد ذاتها، بل بـكيف نُستخدم الهوية؟ ولماذا تُحوّل إلى ميدان للصراع، بينما هي في جوهرها تراث مشترك، وتاريخ حي، وتعدد ثري؟

الإشكالية الحقيقية ليست في تعدد الانتماءات، بل في تخلف الوعي السياسي والفكري الذي يعجز عن فهم الحداثة، ويُفقر في مواجهة التحديات، فيلجأ إلى تبني أيديولوجيات جاهزة دون تمحيص، ثم يُوظّف الهوية كدرع وهمي لشرعنة الصراعات السياسية، ويُحوّل بذلك صراعات السلطة إلى حروب هوياتية لا تنتهي.

الوعي المتخلف: تبني أيديولوجيات بلا فهم
 ما يميز كثيرًا من الخطابات السياسية في مجتمعاتنا هو الاستيراد الأعمى للأيديولوجيات، دون تأصيل أو تحليل. نشهد حضورًا قويًا لمصطلحات مثل "الإسلام السياسي"، و"القومية العربية"، و"العلمانية"، و"الاشتراكية"، و"الليبرالية"، لكن غالبًا ما تُستخدم هذه المفاهيم بشكل سطحي، أو كشعارات تعبوية، لا كمشاريع فكرية مبنية على رؤية نقدية للواقع.

الوعي المتخلف لا يفهم الأيديولوجيا كأداة تحليل، بل كشعار هوية. فيُصبح "الإسلامي" من يرفع شعار الإسلام، و"القومي" من يُنادي بالوحدة العربية، و"الحداثي" من يُهاجم الدين. لكن لا أحد يسأل: ما معنى الدولة المدنية؟ كيف نبني اقتصادًا عادلًا؟ ما علاقة الديمقراطية بالهوية؟

هذا التخلف في الوعي يجعل الأيديولوجيا أداة تمكّن، لا وسيلة تحرّر. فهي لا تُبنى على فهم عميق للواقع، ولا على تجربة جماعية منقّحة، بل على استنساخ نماذج أجنبية، أو على ردود فعل عاطفية تجاه الاستعمار، أو الدين، أو الغرب.

التحوّل الخادع: من الصراع السياسي إلى الصراع الهوياتي
 عندما تفشل الأحزاب، والحركات، والأنظمة في تقديم مشروع مجتمعي حقيقي، تلجأ إلى تحويل الصراع السياسي إلى صراع هوياتي. فبدل أن تُناقش برامج الإصلاح، أو العدالة الاجتماعية، أو بناء المؤسسات، تُثار قضايا مثل:
"هل نحن عرب أم أمازيغ؟"
"هل الدولة يجب أن تكون إسلامية أم علمانية؟"
"هل ننتمي إلى العالم العربي أم إلى إفريقيا؟"

هذه الأسئلة ليست بالضرورة خاطئة، لكنها تُطرح في سياق خاطئ: كصراعات وجودية، تُستخدم لتعبئة الجماهير، وشيطنة الخصم، وتحقيق التفوق السياسي. فيُصبح الخصم ليس مجرد معارض، بل "عدوًا للهوية"، أو "خائنًا للدين"، أو "مستغربًا منحلًا".

هكذا، يتم تفريغ السياسة من محتواها، ويُستبدل بالرمز والهوية. والنتيجة؟
لا تُبنى مؤسسات.
لا تُنشأ ديمقراطية حقيقية.
لكن تُشعل نار الصراعات الرمزية التي تُلهي الناس عن جوهر المعضلة.
لا تُحلّ مشاكل البطالة، والفقر، والفساد.

الهوية كذريعة، والديمقراطية كضحية
 الديمقراطية لا تُبنى على القطيعة، بل على التوافق، والحوار، والاعتراف بالآخر. لكن في سياق الصراع الهوياتي، يُصبح الآخر تهديدًا وجوديًا. فالذي لا ينتمي إلى "هويتنا" لا يمكن أن يكون مواطنًا كامل الحقوق. وهذا يُقوض جوهر المواطنة.

الدولة الحديثة تقوم على فكرة أن الهوية لا تُفرض، بل تُحترم في تنوعها. لكن عندما يُستخدم الانتماء الهوياتي كأساس للانتماء السياسي، تُصبح الدولة أداة تمييز، لا عدالة. وتُصبح الديمقراطية مجرد صندوق اقتراع يُستخدم لفرض هيمنة جماعة على أخرى، باسم "الهوية الصحيحة".

الهوية، في هذا السياق، لا تُحرّر الإنسان، بل تُلجمه. فهي تُحدّد له من هو، ماذا يؤمن به، أين ينتمي، وكيف يجب أن يعيش. تُصبح قيدًا، لا مرجعًا. وتُحوّل الفرد إلى رهينة لانتماءات لم يخترها، ويُحاسب عليها يوميًا.

الإنسان الملغوم: ضحية الصراعات المُختلقة
 الأكثر تأثرًا بهذا التحويل الخطير هو الإنسان العادي، المواطن البسيط، الذي يبحث عن لقمة عيش، وعن عدالة، وعن كرامة. لكنه يُستدرج إلى صراعات لا معنى لها، ويُطلب منه أن يختار:
إما أن تكون "عربيًا" فتُناصر هذا الطرف،
أو "أمازيغيًا" فتُنضم إلى ذاك،
أو "مسلمًا حقيقيًا" فترفض العلمانية،
أو "حاليًا" فترفض الدين.

هذا التحدي يُفقر الإنسان، ويُعزل، ويُشعره بالذنب إذا لم ينتمِ بالشكل "الصحيح". يُصبح مُرَبّكًا، مُحتارًا، مُلقَّنًا. وبدل أن يُبنى وعيه النقدي، يُزرع فيه الخوف من الآخر، والشك في ذاته.

الهوية، التي كان يمكن أن تكون مصدر فخر وانتماء، تُصبح لغمًا نفسيًا واجتماعيًا يُفجّر في وجه كل محاولة للوحدة، أو التقدم، أو التغيير.

إعادة الإشكالية إلى جوهرها: الوعي أولًا
 الإشكالية الحقيقية، إذا، ليست في الهوية، ولا في الأيديولوجيا، بل في الوعي المتخلف الذي يعجز عن إدارة التعدد، ويُفقر في بناء المشروع، فيُلجأ إلى تبسيط الواقع عبر توظيف الهوية.
الحل لا يكمن في إنكار الهوية، ولا في القضاء على الأيديولوجيات، بل في:
تأصيل الوعي النقدي، يفهم الأيديولوجيا كأداة تحليل، لا كهوية جاهزة.
إعادة الصراع إلى أرضيته الحقيقية: السياسة، والاقتصاد، والحقوق، لا الرموز والانتماءات.
بناء هوية وطنية جامعة تقوم على المواطنة، لا على الإقصاء.
إطلاق حرية التفكير، بحيث لا يُعاقب الإنسان على سؤاله، أو اختلافه.
 
نحو وعي يحرر، لا يُقيّد
 الهوية ليست مشكلة.
المشكلة هي من يستخدمها كسلاح.
الأيديولوجيا ليست عدوة.
العدو هو من يُوظفها دون فهم.
الدولة الحديثة لا تُبنى على القطيعة، بل على الالتقاء.
والديمقراطية لا تُزرع بالتمييز، بل بالاعتراف.
والمجتمع لا يُبنى بالصراع، بل بالحوار.
فلنُخرج الهوية من ساحات الصراع،
ولنُعيد الوعي إلى موقعه كأداة تحرّر،
ولنُفكّك الألغام المزروعة في عقولنا،
قبل أن تُفجّر أحلامنا في العدالة، والحرية، والكرامة.
فالمستقبل لا يُبنى على الهويات المتقابلة،
بل على الإنسان المتحرر.
 
إيغوصار 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

imp

يتم التشغيل بواسطة Blogger.