أعلان الهيدر

Header ADS

أوال الكلمة

السبت، 23 أغسطس 2025

الرئيسية رؤية أمازيغية شاملة للزمن والهوية

رؤية أمازيغية شاملة للزمن والهوية

 الجذور، الشجرة، والبذور :رؤية أمازيغية شاملة للزمن والهوية

الماضي هو الجذور،
الحاضر هو الشجرة،
المستقبل هو البذور.

— حكمة أمازيغية

تختزل هذه الجملة القصيرة بليغة حكمة عميقة تنبض بروح الأمازيغ، شعب الجبال والصحارى، أصحاب حضارة عريقة امتدّت عبر آلاف السنين. ليست هذه العبارة مجرد تشبيه شعري، بل هي نموذج فلسفي متكامل للنظر إلى الزمن، والهوية، والمسؤولية، وعلاقة الإنسان بماضيه وحاضره ومستقبله. إنها رؤية حيّة للوجود، تقوم على فكرة الاتصال المستمر بين الأجيال، وعلى وعي بأن الحياة لا تُفهم إلا كسلسلة متصلة من العطاء، لا تبدأ بالفرد ولا تنتهي به.

أولًا: الجذور — الماضي كمصدر للهوية والانتماء
 الماضي، في هذه الحكمة، لا يُصوَّر كصفحة مغلقة، ولا كذكرى باهتة، بل كـجذور — ذلك الجزء الخفي من الشجرة الذي لا يُرى، لكنه الأهم. فالجذور تمتد في العمق، تمتص الماء والعناصر من باطن الأرض، وتحتفظ بالتربة، وتمنح الشجرة الاستقرار. كذلك، فإن الماضي ليس شيئًا ميتًا، بل هو مصدر الحياة.

الجذور هنا ترمز إلى الأسلاف، واللغة (تامازيغت)، والعادات، والمعتقدات، والقصص الشعبية، والمواقف النضالية، وذاكرة المقاومة ضد الاستبداد والاستعمار. كل هذه العناصر ليست مجرد معلومات تاريخية، بل هي هوية حيّة. فالأمازيغي الذي لا يعرف جذوره، كشجرة لا تملك جذورًا: قد تبدو شامخة لحظة، لكنها تسقط أول عاصفة.

الاعتراف بالماضي لا يعني العيش فيه، ولا التشبّث به بشكل عقيم. بل يعني فهمه، وتقديره، واستخلاص الدروس منه. الجذور لا تُطالبنا بالعودة إليها، بل تطلب منّا أن نعترف بأنها هي التي تُمكّننا من الوقوف.

ثانيًا: الشجرة — الحاضر كزمن الفعل والمسؤولية
 الحاضر هو الشجرة — الكائن الحي الذي يظهر للعيان، يُعطي الظل، ويُثمر، ويتنفّس. هو مرحلة الظهور، والتأثير، والمشاركة. الشجرة لا تُبنى من العدم، بل هي ثمرة مباشرة لجذورها. وبالمثل، فإن كل ما نحققه اليوم — من ثقافة، ولغة، وتعليم، ونضال من أجل الحقوق — هو تجسيد للماضي الحيّ في الحاضر.

لكن الشجرة لا تعيش بمعزل عن جذورها، ولا يمكنها أن تستمر دون أن تُنتج بذورًا. هذا هو جوهر المسؤولية: أن ندرك أن الحاضر ليس فقط زمن الاستفادة، بل زمن العطاء. فالشجرة التي لا تُثمر، أو لا تُلقح بذورها، تصبح عاجزة عن إكمال الدورة الحياتية.

في السياق الأمازيغي، يُمثل الحاضر لحظة حاسمة: لحظة إحياء اللغة، وتعزيز الهوية، وفرض الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية. إنها لحظة "الوقوف"، كشجرة شامخة في وسط صحراء قد تحاول محوها. لكن هذا الوقف لا معنى له إن لم يُترجَم إلى فعل إنجابي: تعليم الأطفال تامازيغت، تدوين القصص، بناء مؤسسات ثقافية، وتمكين المرأة الأمازيغية، وربط الجيل الجديد بجذوره.

ثالثًا: البذور — المستقبل كمسؤولية جماعية ووعد حي
 غالبًا ما يُنظر إلى المستقبل على أنه مجهول، بعيد، غير مضمون. لكن الحكمة الأمازيغية ترفض هذا التصوّر. المستقبل، كما تقول، هو البذور — أي أنه موجود اليوم، مُغروس في الحاضر. البذرة ليست "ما سيأتي"، بل هي "ما نزرعه الآن".

كل كلمة ننطقها بالأمازيغية، كل طفل نعلّمه لغته، كل موقف ندافع فيه عن الكرامة، كل عمل فني أو أدبي نُنتجه، هو بذرة. والبذرة لا تضمن نمو شجرة، لكنها تخلق إمكانية النمو. والشعب الذي لا يزرع بذورًا، لا يمكنه أن يتوقّع غدًا.

هذا يضع على عاتق كل جيل مسؤولية أخلاقية: ألا يكون فقط وريثًا للماضي، بل حارسًا للمستقبل. فالهوية لا تُورَّث بالدم فقط، بل تُورَّث بالفعل. وإذا توقّف الزرع، تنقطع السلسلة.

البعد الفلسفي: الزمن كاتصال، لا كانفصال
 ما يميّز هذه الحكمة أنها تُقدّم رؤية حلزونية أو دائرية للزمن، على عكس الرؤية الخطية السائدة في الثقافات الحديثة (ماضٍ → حاضر → مستقبل كسلسلة منفصلة). عند الأمازيغ، الزمن ليس خطًّا مستقيمًا، بل هو دورة حياة، حيث كل عنصر يُغذّي الآخر.
الجذور تُغذّي الشجرة،
الشجرة تُنتج البذور،
والبذور تُصبح جذورًا لشجرة جديدة.

وهكذا، لا يوجد فصل بين الأجيال. الجدّ لا يموت تمامًا ما دام حفيده ينطق بلغته. والطفل لا يبدأ من الصفر، بل يحمل في داخله جذور أسلافه وبذور أحفاده.

هذه الرؤية تُعيد تعريف الفردية: فأنا لست "أنا فقط"، بل أنا امتداد لمن سبقني، وبداية لمن سيأتي. وهذا يخلق شعورًا بالمسؤولية الجماعية، ويُعلي من قيمة التضامن عبر الزمن.

البعد الوجودي: الهوية كفعل تواصل دائم
 الهوية الأمازيغية، كما تُظهر هذه الحكمة، ليست شيئًا ثابتًا أو ماضيًا. بل هي عملية ديناميكية من الربط المستمر بين ما كان، وما هو كائن، وما يجب أن يكون.

الهوية هنا لا تُبنى على النفي أو الانغلاق، بل على الاتصال. اتصال بالجذور، اتصال بالحاضر، واتصال بالغد. ولهذا، فإن كل محاولة لمحو اللغة أو تهميش الثقافة، ليست فقط اعتداء على الماضي، بل هي هجوم على المستقبل، لأنها تقتل البذور قبل أن تُزرع.

شعب لا يخشى العاصفة ولا الشتاء
 في ختام هذه التأملات، تعود الحكمة إلى تأكيدها الأقوى:

"شعب يعرف جذوره لا يخشى أي عاصفة.
وشعب يزرع بذورًا لا يخشى أي شتاء."

إنها رسالة تفاؤل وقوة. فالخوف من الذوبان، أو من الانقراض الثقافي، لا يُقاس بحجم التحديات، بل بمدى التمسّك بالجذور، وبكثافة البذور المزروعة.

الحفاظ على الهوية ليس تمسّكًا بالماضي، بل هو استثمار في المستقبل. وهو فعل مقاومة، وفعل حب، وفعل أمل.

فالجذور تُثبت،
والشجرة تُعبّر،
والبذور تُنذِر بمستقبل لا يُبنى من لا شيء،
بل من وعي، وذاكرة، ويد تمتد من الماضي إلى الغد.
 

إيغوصار 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

imp

يتم التشغيل بواسطة Blogger.