تأخر الوعي: الجذر الخفي للتخلف الحضاري
فالوعي ليس مجرد معرفة، ولا مجرد تعليم، بل هو القدرة الجماعية على فهم الذات، وتحليل الواقع، واتخاذ قرارات حرة ومُستنيرة.
وهو ما يجعل من المجتمع كائنًا حيًا، قادرًا على التفكير، والانتقاد، والابتكار.
ومن دون هذا الوعي، تُصبح كل محاولات التقدم مجرد أقنعة على جسدٍ ميت.
لكن الحقيقة المعاكسة هي الأكثر دقة: تأخر الوعي هو السبب الجذري لكل أشكال التخلف.
إذا لم يكن هناك وعي بمعنى التقدم، وبأسس المعرفة، وبقيمة الحرية، فإن كل ما يُبنى سيبقى سطحيًا، هشًا، وغير قابل للاستمرارية.
غياب ثقافة النقد.
هيمنة التلقين على التعليم.
تحويل المعرفة إلى وَهْم، لا إلى أداة تحرر.
إنه حالة من الجمود الفكري، تجعل المجتمع غير قادر على:
قراءة التاريخ بعيون ناقدة.
التعامل مع الحاضر بواقعية.
التفكير في المستقبل بحرية.
التقديس أو التدمير المطلق للماضي: إما أن التراث كله نور، أو كله ظلام، دون وسط نقدي.
الاستهلاك السلبي للمعرفة: نُدرّس الفلسفة، لكننا لا نُفكر فلسفيًا. نُقرأ التاريخ، لكننا لا نُعيد تفسيره.
الانفصال بين العلم والحياة: المعرفة تُختزل في الفصل الدراسي، ولا تُصبح أداة لفهم الواقع أو تغييره.
الطالب لا يُعلّم كيف يفكر، بل كيف يحفظ.
لا يُشجع على السؤال، بل على التسليم.
النتيجة: أجيال تعرف الإجابات، لكنها لا تعرف كيف تطرح الأسئلة.
الوعي يُهدد بالمساءلة، بالاختراق، بالتغيير.
لذلك، تُدار وسائل الإعلام، وتُراقب الجامعات، وتُكبح الحريات الفكرية، ليس لحماية الأمن، بل لحماية الهيمنة الرمزية.
أما في المجتمعات المتأخرة في الوعي، فالمعرفة غالبًا ما تُعامل كـنص مغلق:
علمي: "هذا ما ورد في الكتاب، فلا تجاوزه".
تاريخي: "كانت الأمور هكذا، فلا تسأل لماذا".
النخب ما زالت تُنتج المعرفة وفق معايير خارجية.
النجاح يُقاس بقدر الانتماء إلى النموذج الغربي.
اللغة الأجنبية تُصبح علامة على التحضر، بينما تُعامل اللغة الأم كوسيلة تواصل يومي، لا كحاملة للتفكير.
الإصلاحات تُصبح تجميلية: نُغير الدساتير، لكن العقل السياسي يبقى قديمًا. نُطلق شعارات "دولة القانون"، لكن الممارسات تُكرّس الاستبداد.
الإنسان يُصبح مستهلكًا، لا مُبدعًا: يُستهلك الفكر، والفن، والتكنولوجيا، دون أن يُشارك في إنتاجها.
الهوية تُصبح مصدر عار، لا فخر: يشعر الفرد بالخجل من لهجته، من ملابسه، من عاداته، لأنه لا يرى فيها "الحداثة".
وهذا يتطلب:
لكن ثورة الوعي لا يمكن كبتها.
فمرة واحدة يُصبح الإنسان واعيًا، لا يمكن إعادته إلى الظلام.
لكن تجاوزه يتطلب شجاعة: شجاعة السؤال، شجاعة المواجهة، شجاعة التفكير المستقل.
الحضارة لا تُبنى بالآلات، بل بالعقول.
والتخلّف لا يُقاس بالفقر، بل بالجمود.
فمتى نبدأ، حقًا، بتحرير العقل قبل تحرير الأرض؟
إيغوصار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق