أعلان الهيدر

Header ADS

أوال الكلمة

السبت، 11 أكتوبر 2025

الرئيسية ثمن معاداة الحداثة

ثمن معاداة الحداثة

عواقب معاداة الحداثة: حين يُقدَّم الرافضون قرابينَ للعقل الذي عادَوْ

الحداثة ليست مجرد "غزو فكري" أو "استيراد ثقافي"، كما يُصوَّر أحيانًا. الحداثة هي الواقع ذاته، هي الهواء الذي يتنفّسه عالمنا المعاصر، والبنية التي تُدار بها الحياة اليومية، من أبسط تفاصيلها إلى أعقد مؤسساتها. إنها ليست خيارًا جماليًّا نختاره أو نرفضه بحسب مزاجنا، بل هي شرط الوجود في العصر. ومن يرفضها، لا يرفض فلسفة أو نمط حياة فحسب، بل يرفض العالم نفسه، ويُعلن حربًا على الزمن، فيخسر المعركة قبل أن تبدأ.

كل ما نعيشه اليوم من كوارث – الجمود الفكري، تراجع الحريات، الانعزال الحضاري، صعود الأصوليات، الاغتراب الهوياتي – ليس صدفة، ولا مؤامرة خارجية، بل هو فاتورة معاداة الحداثة. ولكل فاتورة ثمن، وكلما طال التسويف، ارتفع السعر. نحن لا ندفع ثمن "الانفتاح" أو "الغربنة"، بل ندفع ثمن العناد في رفض الواقع، وثمن الهروب من المسؤولية تحت شعارات زائفة مثل "الأصالة" و"العودة إلى التراث".

ماذا يعني أن نرفض الحداثة دون أن نعرفها؟ 
الكارثة الحقيقية ليست في نقد الحداثة – فذلك حق مشروع، بل واجب فكري – بل في رفضها دون فهمها، وعدائها دون معرفتها. نحن لا نقرأ ديكارت، لكننا نشتم "العقلانية". لا نقرأ كانط، لكننا نرفض "التنوير". لا نفهم مفهوم "الفردانية"، فنخلط بينها وبين "الأنانية". نرى في العلم "كفرًا"، وفي الحرية "فسادًا"، وفي المساواة "انحلالًا". وبدلاً من أن نُجري عملية نقدٍ واعية، نلجأ إلى التحريم والتكفير والتخوين، وكأن العقل جريمة، والتفكير خيانة. 
ونحن نفعل ذلك، نمارس بوعي أو دون وعي:
التشكيك في العقلانية والعلم، فنُعيد المجتمع إلى عصور السحر والخرافة.
التمسك بالمطلق والثابت، فنقتل كل إمكانية للتجديد.
الانغلاق الثقافي والهوياتي، فنصبح سجناء لصور ذهنية عن أنفسنا لا تمتّ للواقع بصلة.
الدعوة إلى "الأصالة"، وهي في الحقيقة دعوة إلى التخلّف المقنّع.
تقديس الماضي، بينما نُهمل الحاضر ونهرب من المستقبل.
الاستبداد باسم الدين أو الهوية، فنحوّل المقدس إلى سوطٍ للقمع.
مقاومة التحديث الاقتصادي والمؤسسي، فنبقى رهائن لاقتصاد ريعي أو بدوي لا يُنتج ولا يُجدّد.
الاغتراب الهوياتي، حيث يعيش الفرد منقسمًا بين عالمه الرقمي وخطابه الاجتماعي.
الحنين إلى الماضي المثالي، وهو وهمٌ لا وجود له إلا في خيال المهزومين.

الحداثة لا تفاوض، بل تُقدّم الفاتورة 
الحداثة لا تطلب إذنًا، ولا تنتظر موافقة. هي تسير، سواء أردنا أم أبينا. والذين يرفضونها لا يوقفونها، بل يُبعَدون عنها. يصبحون خارج التاريخ، لا يُشاركون في صنعه، بل يُصبحون ضحاياه. وكل يوم نرفض فيه العقل، نُضيف سطرًا جديدًا إلى فاتورةٍ سنُجبر على دفعها غاليًا: بالفقر، بالجهل، بالقمع، بالانقسام، وبالذل الحضاري. 
وكلما زاد رفضنا، زاد عدائنا، ارتفع ثمن الفاتورة. لأن الحداثة لا تُكافئ المتخاذلين، بل تُعاقبهم بالتهميش. والعالم لا ينتظر من يرفضه ليُعيد ترتيب نفسه وفق أوهامه.

الدرس التاريخي: من قرابين الآلهة إلى قرابين العقل 
تاريخ البشرية مليء بالمجتمعات التي حملت بذور فنائها في داخلها. حضارة الأزتك، مثلاً، كانت تُقدّم البشر قرابين لإله الشمس، ظنًّا منها أن ذلك يُبقي الكون مستمرًّا. لكن التاريخ لم يُكافئ هذا "العبث المقدس"، بل حوّله إلى مأساة حقيقية: حين جاء الغزاة الأوروبيون، لم يجدوا شعبًا يدافع عن نفسه، بل وجدوا مجتمعًا منهكًا بخرافاته، فجعلوه كلّه قربانًا لجشع الاستعمار.

هل نحن اليوم بمنأى عن هذا المصير؟
عندما نرفض العقل، ونعادي العلم، ونُقدّس الجهل باسم "الدين"، ونُقدّم الحرية قربانًا على مذبح "الهوية"، فإننا لا نختلف كثيرًا عن أولئك الكهنة الذين ظنّوا أن دماء الضحايا ستنقذهم.
التاريخ سيكتب يومًا: 
"هنا كانت شعوبٌ عظيمة، لكنها كرهت العقل، فقرّر العقل أن يقدّمها قرابين للوفاء لمن سبقوها في البدائية."

الخلاصة: لا مفرّ من الحداثة، إلا بالانتحار الحضاري 
الحداثة ليست عدوًّا نُحاربه، بل مرآة نرى فيها أنفسنا. إن رفضنا لها، فنحن نرفض أن نكون أحياء في عالمنا. والخيار الحقيقي ليس بين "التراث والحداثة"، بل بين الحياة والموت الحضاري.
إما أن ندخل الحداثة من باب النقد والتفاعل، فنُسهم في تشكيل حداثة تنتمي إلينا،
أو نبقى خارجها نشتمها، فندفع الثمن باهظًا، حتى تأتينا الحداثة لا كفرصة، بل كضربة قاضية. 
فهل نحن مستعدون لدفع الفاتورة؟ أم سنفيق قبل أن يُكتب على شعوبنا: "قدّموهم قربانًا للعقل الذي عادَوْه"؟
 
إيغوصار 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

imp

يتم التشغيل بواسطة Blogger.