أعلان الهيدر

Header ADS

أوال الكلمة

الاثنين، 18 أغسطس 2025

اللغة حق وجودي

 جريمة منهجية: تدمير اللغة الأم باسم "التعليم والدين"

لا يمكن أن نتحدث بلهو أو تردد عن جريمة تُرتكب يوميًا في صفوف المدارس، تحت غطاء "الديداكتيك"، و"التحديث"، و"الانفتاح على العالم"، بينما الحقيقة أبشع بكثير: نظام تعليمي يُدمّر الطفل من جذوره، عبر تجاهل لغته الأولى، وفرض وهم أن لغة الغالب أو المستعمر هي لغته "الأولى".

هذا ليس خطأً تربويًا.
ليس مجرد "اختيار منهجي".
ليس "تجربة تعليمية".
هذا هو إرهاب لغوي منظم، يُمارس ضد وعي الأطفال، وهويتهم، وعلاقتهم بالعالم.

لغة الطفل ليست خيارًا، بل هي وجوده
 اللغة الأولى للطفل  تلك التي يسمعها من أمه، ويعبّر بها عن جوعه، وخوفه، وحبه ليست "لهجة"، ولا "لغة قروية"، ولا "وسيلة تواصل بسيطة".
هي أداة تفكيره، وبوصلة مشاعره، وشكل عقله.
فيها يُكوّن مفاهيمه عن العدالة، والزمن، والمكان، والذات.ومن دونها، لا يمكن أن يفهم، لا يمكن أن يُفكّر بعمق، لا يمكن أن يُبدع.
لكن النظام التعليمي، بغروره البيروقراطي، وغرقِه في نماذج مستوردة، يُقرر من أعلى:

"سنُدرّس باللغة الرسمية. لن نعترف بلغته. سنُعامله كما لو أن هذه اللغة هي لغته منذ الولادة".

وهو يفعل ذلك عن قصد.
ليس بسبب نقص في الموارد، بل كجزء من مشروع تهميش، من تراتبية ثقافية، من هيمنة مركزية ترى في اللهجات، واللغات المحلية، والثقافات المهمشة، شيئًا دونيًا، "غير صالح للتعليم"، "غير مدني".

الكارثة التعليمية: فصل الطفل عن أدوات فهمه
 هل نُدرّس الرياضيات بلغة لا يفهمها الطفل؟
هل نُقدّم مفاهيم الفيزياء أو التاريخ بلغة أجنبة عن وعيه؟
هل نطلب منه أن "يفهم"، و"يفكّر"، و"ينتقد"، وهو لا يملك الكلمات للتعبير؟ 
 
النتيجة حتمية:
فشل دراسي جماعي، لا يُنسب إلى النظام، بل إلى "كسل التلميذ"، أو "ضعف الأسرة".
تأخر في النمو العقلي، لأن الدماغ يُجبر على التفكير بلغة أجنبة، فيفقد السرعة، والدقة، والقدرة على التحليل.
تدهور في القدرة على التعبير، فيُصبح الطفل صامتًا، أو يُقلد العبارات دون فهم، كالروبوت.

التعليم لا يُبنى على التكرار، بل على الفهم.
والفهم لا يأتي عبر التلقين بلغة مفروضة، بل عبر الحوار، والتساؤل، والانتماء.

الجريمة النفسية: اغتيال الهوية من الداخل
اللغة ليست مجرد أصوات وحروف.
هي الهوية.
هي الكرامة.
هي الانتماء.

عندما تُخبر الطفل أن لغته "ليست مناسبة للمدرسة"، فإنك تُخبره:

"أنت لست مناسبًا. عائلتك ليست مناسبة. ثقافتك ليست مناسبة. أنت ناقص، وعليك أن تُصبح آخر لكي تنجو".

وهذا ما يُحدثه هذا النظام:
طفل يشعر بالخجل من أمه، لأنه لا يُريد أن يسمعها تتحدث "لهجتها" في الشارع.
طفل يُنكر جذوره، لأنه يرى في لغته أمارة "الbackwardness"، بينما يرى في لغة التعليم رمز "التحضر".
طفل منشق داخليًا، يعيش بين عالمين: واحد في البيت، وآخر في المدرسة، ولا ينتمي تمامًا لأي منهما.
هذا ليس تربية.
هذا تدمير نفسي منهجي.
 
الجريمة الاجتماعية: تعميق التمييز وصناعة الطبقات
هذا النهج لا يُضرّ الجميع بالتساوي.
فالأطفال من البيئات الغنية، الذين يتعلمون لغة التعليم في بيوتهم، عبر الإنترنت، أو الدروس الخصوصية، أو السفر، ينجون.
أما الفقير، الذي يعتمد فقط على المدرسة، فيُفشل من اليوم الأول.
النتيجة؟
نظام تعليمي يُكرّس التفاوت، لا يُقلّله.
طبقة نخبوية تُسيطر على المعرفة، وتُبرر هيمنتها بأنها "أكثر تطورًا".
مجتمع مُجزّأ، يُقسّم الناس إلى: "من يفهمون" و"من لا يفهمون"، أي: "من يستحقون" و"من لا يستحقون".
وهكذا تُصبح اللغة أداة تمييز، بدل أن تكون أداة تواصل ووحدة. 
 
الجريمة الثقافية: إبادة جماعية رمزية
كل لغة تحمل عالمًا.
أمثالها، وأغانيها، وفلسفتها، وطرائق تفكيرها.
عندما تُهمَل لغة، لا تُفقد كلماتها فقط، بل تُفقد طريقة تفكير، ورؤية للعالم، وحكمة تراكمت عبر قرون.
وإذا استمرّ هذا النهج، فلن نحتاج إلى موت الجيل القديم ليختفي لغته.
فالجيل الجديد لن يُريد تعلّمها.
لن يراها "مهمة".
لن يسمعها إلا في كلام "الجاهلين".
وهكذا تُقتل لغات، ليس بالرصاص، بل بالمنهج الدراسي
 
لا وهم يبرر هذه الجريمة
الوهم الأكبر هو الاعتقاد أن تجاهل اللغة الأم يُسرّع "الاندماج" أو "التحديث".
الحقيقة أن العكس هو الصحيح:
الشعوب التي تحترم لغاتها المحلية (سويسرا، فنلندا، كندا، جنوب إفريقيا) هي الأكثر تقدمًا في التعليم.
أما التي تُهمش لغات شعبها، فتُنتج جيلًا من "الغريبة في وطنهم"، لا يملكون أدوات التفكير، ولا الشعور بالانتماء.
التعليم الناجح لا يُبنى على التخلي عن الأصل، بل على البناء عليه.
تُدرّس العلوم بلغة الطفل أولًا، ثم يُنتقل تدريجيًا إلى لغات أخرى، بطريقة علمية، وليست قسرية. 
 
لا تسامح مع من يقتلون اللغة
لن نكون لطفاء في الحكم على هذا النظام.
ليس هناك مجال للتساهل مع من يُدمرون وعي الأطفال باسم "المنهجية".
ليس هناك تبرير لمن يُقصون الملايين من أبناء الشعب من دائرة الفهم، فقط لأن لغتهم "غير مريحة" للسلطة.
هذا ليس إهمالًا.
هذا تآمر منظم على العقل الجماعي.
جريمة ضد التعليم.
جريمة ضد الهوية.
جريمة ضد الإنسانية.
ومن يُصرّ على تجاهل اللغة الأم،
ليس فقط لا يفهم التربية،
بل لا يفهم معنى أن يكون إنسانًا.

فهل نُعلّم طفلًا،
أم نُخرّبه؟
هل نبني عقلًا،
أم نُفرّغه؟

اللغة الأم ليست خيارًا تربويًا.
هي حق وجودي.
ومن ينتزعها،
ينتزع معها إنسانية الطفل. 
 
إيغوصار  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

imp

يتم التشغيل بواسطة Blogger.