أعلان الهيدر

Header ADS

أوال الكلمة

الأربعاء، 20 أغسطس 2025

الرئيسية الشعوب تموت عندما تنسى من تكون

الشعوب تموت عندما تنسى من تكون

الثقافة تحيي وتميت: بين البناء والتدمير

لا يمكن فصل هوية الشعوب عن ثقافتها، فهي ليست مجرد مجموعة من العادات أو التراث أو الفنون، بل هي لبّ الوجود الإنساني، وعماد الحضارة، ووعاء القيم والمعاني. الثقافة ليست حيادًا، بل هي قوة فاعلة، تُحيي المجتمعات أو تُميت روحها، حسب طبيعتها واستخدامها. من هنا تأتي العبارة العميقة: "الثقافة تحيي وتميت"، كمُجسّس لقوة الثقافة في صنع المصير الجماعي للبشر.

الثقافة تُحيي: عندما تكون نبض الحياة
الثقافة الحية هي التي تُغذي الوعي، وتُشجّع على الإبداع، وتحفظ الذاكرة الجماعية. إنها تُحيي الإنسان ليس فقط من خلال تأمين احتياجاته المادية، بل عبر منحه معنى للحياة. فعندما يشعر الفرد بأن له تراثًا، ولغة، وفنًا، وقيمًا، فإنه يشعر بالانتماء، وتُصبح حياته غنية بالدلالات.

الثقافات التي تُعلي من شأن التعليم، والتفكر، والانفتاح، هي التي تُحدث نهضات حضارية. ففي عصر النهضة الأوروبية، لم يكن التقدم العلمي وحده هو ما أنقذ أوروبا من الظلامية، بل كان معه ثقافة جديدة تُقدّر الإنسان، وتدافع عن العقل، وتُشجع على السؤال. وكذلك في الحضارة الإسلامية، كانت الثقافة هي السبب في ازدهار العلم، والطب، والفلسفة، والفن، لأنها كانت تُعتبر جزءًا من العبادة والتقرب إلى الله.

الثقافة تُحيي أيضًا من خلال المقاومة. ففي أحلك فترات الاستعمار، كانت الثقافة سلاح الشعوب المستضعفة. الحكايات الشعبية، والأغاني، واللغة، والفن، كانت وسائل لحفظ الهوية، ونقل روح المقاومة إلى الأجيال القادمة. فالثقافة هنا لم تكن ترفيهًا، بل كانت سلاح الحياة ضد محاولات المسخ والطمس.

الثقافة تميت: عندما تتحول إلى سجن للعقل
 لكن الثقافة قد تكون أيضًا أداة للقتل البطيء. فليس كل ما يُسمّى "ثقافة" هو خير. هناك ثقافات تُروّج للكراهية، وتُشرعن للعنف، وتقمع الحريات، وتُعمّق التفرقة. ثقافة التمييز العرقي، أو الطائفي، أو الجنسي، تُميت روح المجتمع من الداخل، وتقضي على التعايش، وتُولّد صراعات لا تنتهي.

الثقافات الجامدة، التي ترفض التغيير، وتعتبر كل جديد "انحرافًا"، تُميت الإبداع، وتُحبس الإنسان في دوامة التقليد الأعمى. فبدل أن تكون الثقافة مصدراً للإلهام، تصبح سجناً يُقيد العقل، ويُبعد عن التطور.

كما أن "الاستعمار الثقافي" هو أحد أخطر أشكال الموت الثقافي. عندما تُفرض ثقافة أجنبية على شعب ما، عبر وسائل الإعلام، أو التعليم، أو الاقتصاد، فإن ذلك يؤدي إلى محو الهوية، وانقطاع الجيل الجديد عن جذوره. هنا، لا يموت الإنسان جسديًا، لكنه يموت ثقافيًا. يفقد لغته، ويفقد تراثه، ويبدأ بالنظر إلى ذاته بازدراء، مُفضّلًا ما هو "غريبي" على ما هو "أصيل".

بين الحياة والموت: مسؤولية البناء الثقافي
إذا كانت الثقافة تمتلك هذه القوة، فإن بناء ثقافة صحية يصبح واجبًا أخلاقيًا وحضاريًا. لا يمكن لأمة أن تنهض دون ثقافة تُعلي من شأن العقل، وتدافع عن الكرامة، وتشجع على التسامح، وتحترم التنوّع.
هذا يتطلب:
إصلاح منظومة التعليم لتصبح مُركزة على التفكير النقدي، وليس الحفظ والتلقين.
دعم الفنون والإبداع كوسيلة لفهم الذات والعالم.
إعادة الاعتبار للغة وتراث الأمة، دون وقوع في التعصب أو العزلة.
الانفتاح على الثقافات الأخرى بروح ناقدة، لا تقلد، بل تستفيد.
 
الثقافة ليست ترفًا
 الثقافة ليست شيئًا ثانويًا يمكن التضحية به من أجل الاقتصاد أو الأمن. بل هي جوهر البقاء. الشعوب التي تفقد ثقافتها، تفقد روحها، وتُصبح مجرد كيانات سياسية بلا روح. أما الشعوب التي تُحيي ثقافتها، وتجدد خطابها، وتُنمي وعيها، فهي التي تضمن بقاءها، وتُساهم في بناء مستقبل إنساني أفضل.

فالثقافة، في النهاية، ليست فقط ما نرثه، بل ما نصنعه. وهي قادرة، إن أُحسنت صناعتها، أن تُحيي الأمم، أو إن أُسيء استخدامها، أن تُميت روحها قبل أن تموت جغرافيًا.

كما قال الشاعر:
"الشعوب لا تموت بالجوع،
بل تموت عندما تنسى من تكون."

إيغوصار 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

imp

يتم التشغيل بواسطة Blogger.