شمال إفريقيا التي تُقصي نفسها: "نحن" كقناع سلطوي لقمع الهويات الحية
في شمال إفريقيا، لا تُقال "نحن" من موقع اعتزاز جماعي، بل من موقع فرض سلطوي. "نحن عرب"، "نحن مسلمون"، "نحن من اليمن"، "نحن من شبه الجزيرة"، "نحن فصحويون"، "نحن سنيون"... كلها صيغ تُستخدم لتحديد من يُسمح له بالانتماء، ومن يُقصى. هذه "النحن" ليست تعبيرًا عن هوية حية، بل أداة قمع تُمارَس ضد كل من لا يُشبه النموذج الرسمي الذي صاغته الأنظمة بعد الاستقلال.
مشروع الهوية الرسمي: هندسة الإقصاء
منذ لحظة الاستقلال، تبنّت الأنظمة في شمال إفريقيا مشروعًا هوياتيًا قائمًا على التعريب، الأسلمة، والتوحيد القسري. هذا المشروع لم يكن استجابة لتعدد المجتمع، بل محاولة لطمس هذا التعدد، وفرض هوية واحدة تُقصي كل ما عداها: الأمازيغية قُمعت لعقود، واعتُبرت تهديدًا للوحدة الوطنية، رغم أنها لغة الأرض والتاريخ.
الدارجات المحلية، التي يتحدث بها الجميع، تُعامل كعاميات لا تستحق الاعتراف، وتُقصى من المدرسة والإعلام.
الهوية المحلية تُهمّش لصالح سرديات مستوردة من المشرق، تُقدّم كأصل ونقاء، بينما تُعامل الثقافة الأصلية كتشويه أو انحراف.
الجلاد والضحية: لا حياد في القمع
لا يمكن الحديث عن الهوية وكأن الجميع في موقع متساوٍ. هناك من يملك سلطة فرض "نحن"، وهناك من يُجبر على الدفاع عن "أنتم". الأمازيغ، الذين ناضلوا لعقود من أجل الاعتراف بلغتهم، لم يُمنحوا هذا الحق إلا بعد صراع طويل، وما زال الاعتراف شكليًا ومحدودًا. الدارجات، التي تُعبّر عن وجدان الناس، تُقصى من الفضاء العام، ويُعامل من يدافع عنها كمن يُهدد "نقاء اللغة".
القمع الرمزي: حين تُجلد الذات باسم القداسة
السلطة لا تُمارس القمع فقط عبر القانون، بل عبر الرموز والخطاب:
تُقدّس الفصحى، وتُعامل كل لغة أخرى كتشويه.
تُربط الأمازيغية بالانفصال، رغم أنها لغة وطنية.
تُعامل الدارجة كعار لغوي، رغم أنها لغة الحياة.
يُحتكر الدين في نسق واحد، ويُقصى كل من يُفكّر خارج المألوف.
المدرسة والإعلام: أدوات إعادة إنتاج الإقصاء
المدرسة تُدرّس لغة لا تُستخدم، وتُهمل لغة التلميذ.
الإعلام يُكرّس النموذج الرسمي، ويُهمّش كل ما لا يُشبهه.
النخب تُعيد إنتاج الخطاب السلطوي، وتُهاجم التعدد باسم "الوحدة"، وتُمارس عنصرية لغوية وثقافية مقنّعة.
لا وحدة بدون عدالة، ولا وطن بدون اعتراف
الوحدة الوطنية لا تُبنى بالقمع، بل بالاعتراف. لا يمكن أن نكون "نحن" جميعًا، ما لم يُعترف بـ"أنتم" الذين قُمِعوا، وهُمّشوا، وسُخر منهم. الهوية ليست شعارًا، بل حق. والحق لا يُمنح من فوق، بل يُنتزع من تحت. شمال إفريقيا تحتاج إلى مصالحة حقيقية مع ذاتها، تبدأ بالاعتراف بالضحايا، وبمن مارس القمع، وبمن صمت عنه.
الدارجة ليست لهجة، بل لغة شعب.
الأمازيغية ليست تهديدًا، بل جذور الأرض.
الهوية ليست ما تقوله السلطة، بل ما يعيشه الناس.
إيغوصار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق