النفاق المُؤسّس والممؤسس
عندما يصبح الزيف نظاما اجتماعيا سياسيا ثقافيا اخلاقيا ...
ما هو النفاق المُؤسّس؟
النفاق المُؤسّس ليس مجرد قول شيء والعمل بخلافه، بل هو تبنٍّ جماعي لثقافة التناقض، حيث:
يُقدّر الإنسان ليس لقيمه، بل لمظهره.
تُكافأ الابتسامة المُصطنعة، لا المشاعر الصادقة.
يُرفع إلى المراكز العليا من يُجيد التمثيل، لا من يمتلك الكفاءة.
إنه نظام اجتماعي-ثقافي يُعاقب المُخلص، ويُكافئ المُتلون، ويُحوّل الدين، والعلاقات، والعمل، إلى مسرح لا يُهم فيه الجوهر، بل الشكل.
أسباب النفاق المُؤسّس
انهيار المعايير الأخلاقية الحقيقية
صار الناس يُقيّمون بعضهم بمقاييس سطحية: من يلبس أفضل؟ من يُظهر التدين أكثر؟ من يُطلق التصريحات "المناسبة" في الوقت المناسب؟
بينما القيم الحقيقية كالصدق، الشجاعة، والنزاهة، تُهمَش.
الخوف من الرفض الاجتماعي
المجتمعات القمعية –سواء من حيث الرأي، أو السلوك، أو الدين –تُجبر الفرد على التمثيل. من يُخالف يُعزل، يُشَتَّم، يُتهم بالانحلال أو الكفر. فالنفاق هنا ليس اختيارًا، بل وسيلة بقاء.
التمييز حسب الظواهر
من يُظهر التدين، يُحترم، حتى لو كان ظالمًا.
من يُظهر الثراء، يُقدّر، حتى لو كان مدينًا.
من يبتسم دومًا، يُوصف بالطيب، حتى لو كان حاقدًا.
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي
السوضيال ميديا حوّلت الحياة إلى "عرض دائم". كل لحظة تُصوّر، تُزيّن، تُقدّم بشكل مثالي.
النتائج؟ جيل يعيش حياة مزدوجة:
على الشاشة: سعيد، ناجح، مُتدين، مُحب.
في الواقع: مكتئب، مُثقل، وحيد، مُحبط.
غياب العدالة والمساءلة
في الأنظمة التي لا تُحاسب الفاسد، بل تُكافئه، يصبح النفاق أداة للصعود.
فالكذب، التملق، والتملق الديني، تصبح أدوات نجاح، لا عار.
دوافع الفرد للنفاق المُؤسّس
الوصول إلى المناصب: من يُظهر التقوى، يُعيّن في المناصب الدينية، حتى لو كان فاسدًا.
الحماية من النقد: من يُظهر "الاستقامة"، يُصعَب انتقاده، لأن أي نقد له يُحوّل إلى "هجوم على الدين أو الأخلاق".
الانتماء الاجتماعي: من لا يُشارك في النفاق، يُعتبر "غريب الأطوار"، "متمردًا"، "مُنفصلًا".
الهروب من الواقع: بعض الناس يلجأون للنفاق كوسيلة للهروب من ضعفهم، فتراهم يُظهرون القوة، وهم منهارون داخليًا.
تعبيرات النفاق المُؤسّس
التدين الظاهري:
صلاة العيد في المسجد، ثم الاعتداء على العامل في اليوم التالي.
توزيع الخطب النارية عن "الزهد"، بينما المُحاضر يعيش في فلل فاخرة بمال المحسوبين.
العلاقات الاجتماعية المزيفة:
الاتصال بالصديق فقط عند الحاجة.
المُشاركة في العزاءات والمناسبات كـ"واجب اجتماعي"، لا مشاعر حقيقية.
النفاق الوظيفي:
الموظف الذي يُمجّد المدير وراء ظهره، ويسبه أمام زملائه.
المدير الذي يُظهر "العدل"، لكنه يُفضّل المُتملق على الكفؤ.
النفاق الإعلامي:
البرامج التي تُقدّم "القيم"، لكنها تُروّج للماديات والتفاخر.
الدعاة الذين يُحرّمون على الناس ما يُحلّلون لأنفسهم.
النفاق الأسري:
الأب الذي يُطالب أولاده بالصدق، وهو يكذب على الأم.
الأم التي تُظهر "الحب"، لكنها تُفضّل أحد الأبناء على الآخرين.
خطورة النفاق المُؤسّس
تدمير الثقة الاجتماعية
عندما يعلم الجميع أن الكل "يُمثل"، تنهار الثقة. لا تصدق زوجك، ولا صديقك، ولا إمام مسجديك. المجتمع يصبح غابة من الأقنعة.
تغذية الكراهية المكبوتة
النفاق لا يُزيل الكراهية، بل يُكثفها. كل ابتسامة مُصطنعة، كل كلمات مُزيفة، تُخفي وراءها كرهًا دفينًا. وعند أول فرصة، تنفجر هذه الكراهية بعنف.
إضعاف الفرد نفسيًا
من يعيش حياة مزدوجة، يُعاني من تمزق داخلي.
يُصبح مريضًا نفسيًا: اكتئاب، قلق، هوية مشتتة.
"من أنا؟ من أكون أمام الناس؟ من أكون وحدي؟"
تدمير الدين وتشويهه
التدين الزائف هو أسرع طريق لجعل الناس يكرهون الدين نفسه.
فعندما يرى الشباب أن "المتدين" هو أكذب الناس، أظلمهم، أنانيهم، يبدأ في رفض الدين ككل.
عرقلة التقدم المجتمعي
المجتمع الذي لا يحترم الصدق، لا يمكنه أن يُنتج فكرًا حرًا، ولا يُطور مؤسساته.
كيف نتقدّم ونحن نُكافئ الزائف، ونُقصي الصادق؟
هل هناك مخرج؟
الخروج من النفاق المُؤسّس ليس سهلًا، لكنه ممكن، عبر:
إعادة بناء المعايير الأخلاقية الحقيقية: نُقدّر الإنسان لفعله، لا لقوله.
تشجيع الصدق، حتى لو كان مرًا: من يعترف بخطئه، يجب أن يُحترم، لا يُعاقب.
محاربة ثقافة الظواهر: لا نُقيّم الناس بملابسهم، أو خطابهم، بل بسلوكهم المستمر.
إصلاح التعليم والإعلام: لتعليم الجيل أن يكون صادقًا، لا مُتملقًا.
البدء بالذات: أن ترفض النفاق في صغير الأمور، قبل كبيرها.
النفاق المُؤسّس هو موت بطيء للمجتمع
النفاق لم يعد مجرد "عيب"، بل مرض مجتمعي مزمن، يأكل الأخلاق من الداخل، ويُحوّل الحياة إلى مسرح مأساوي، حيث كل شخص يؤدي دورًا لا يشبهه.
من يُصلّي برياء، لا يخدع الله، بل يدمر نفسه.
من يبتسم وهو يكره، لا يخدع الآخر، بل يزرع سمومًا في قلبه.
ومن يرتدي الجبة ليُخفي وحشًا، لا يُضحك الناس، بل يُسقط الدين من السماء إلى وحول النفاق.
لن نُصلح المجتمع بالزيف، بل بالجرأة على أن نكون بشراً، ناقصين، صادقين، أحرارًا.
فقط حين نكسر الأقنعة، يمكن أن تبدأ الحياة الحقيقية.
إيغوصار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق